كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



نعم. أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة؛ وأن تصبح دولة؛ وأن يصبح لها قوة وسلطان.. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد... إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد. وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله؛ ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة؛ ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد.. وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان.
وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال!
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي- لو كانت لهم غير ذات الشوكة- قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد؛ والحق في قلة من العدد، وضعف في الزاد والراحلة. قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي. بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها، قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل؛ فقلبت بيقينها ميزان الظاهر؛ فإذا الحق راجح غالب.
ألا إن غزوة بدر- بملابساتها هذه- لتمضي مثلاً في التاريخ البشري. ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة؛ وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة.. الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية.. ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها. فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض.. ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض- بعد ماغلبت عليها الجاهلية- لجديرة بأن تقف طويلاً أمام (بدر) وقيمها الحاسمة التي تقررها؛ والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم:
{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}..
إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر. ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية..
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها، حيث يتجلى كيف كانت حالهم، وكيف دبر الله لهم، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً... والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهدة وحوادثه وانفعالاته وخفقاته، ليعيشوه مرة أخرى، ولكن في ضوء التوجيه القرآني، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً، والجزيرة العربية، والأرض كلها؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى؛ كما أَنها تتجاوز يوم بدر، وتاريخ الجزيرة العربية، وتاريخ البشرية في الأرض، وتمتد وراء الحياة الدنيا، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى:
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام.
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أَنِّي معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار}..
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته، وتدبيره وقدره؛ وتسير بجند الله وتوجيهه.. وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان، كأنه يكون الآن!
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد- بإسناده- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة. فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً» قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}..
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر: عددهم. وطريقة مشاركتهم في المعركة. وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين.. ونحن- على طريقتنا في الظلال- نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة. والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أَنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.. فهذا عددهم.. {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}.. فهذا عملهم.. ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية.. وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم، وهي قلة والأعداء كثرة. وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيها الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله- سبحانه- في كلماته..
قال البخاري: باب شهود الملائكة بدرا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين».
- أو كلمة نحوها- قال: «وكذلك من شهد بدراً من الملائكة».. (انفرد بإخراجه البخاري)...
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}..
لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون، وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين.. ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله؛ إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة، إنما يرد الأمر كله إليه- سبحانه- تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره. فهذه الاستجابة، وهذا المدد، وهذا الإخبار به... كل ذلك لم يكن إلا بشرى، ولتطمئن به القلوب. أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون.. هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا، حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً..
لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية؛ وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي، وأن يمضوا في طاعة أمر الله، واثقين بنصر الله.. كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم.. وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة، وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي.. وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة. ثم يجيء النصر من عند الله وحده. حيث لا يملك النصر غيره. وهو العزيز القادر الغالب على أمره. وهو الحكيم الذي يحل كل أمر محله..
{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام}..
أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره.. لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته.. فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم؛ والطمأنينة تفيض على قلوبهم (وهكذا كان يوم أحد.. تكرر الفزع، وتكرر النعاس، وتكررت الطمأنينة).. ولقد كنت أمر على هذه الآيات، وأقرأ أخبار هذا النعاس، فأدركه كحادث وقع، يعلم الله سره، ويحكي لنا خبره.. ثم إذا بي أقع في شدة، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم، والتوجس القلق، في ساعة غروب.. ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق.. وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان.. ساكن النفس. مطمئن القلب. مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة.. كيف تم هذا؟ كيف وقع هذا التحول المفاجئ؟ لست أدري! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأُحد.
أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي. وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور. وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر.. ويطمئن قلبي..
لقد كانت هذه الغشية، وهذه الطمأنينة، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر:
{إذ يغشيكم الناس أمنة منه}..
ولفظ {يغشيكم} ولفظ {النعاس} ولفظ {أمنة}.. كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف؛ وترسم الظل العام للمشهد، وتصور حال المؤمنين يومذاك، وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال.
وأما قصة الماء:
{وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام}..
فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة، قبيل المعركة.
قال علي بن طلحة، عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة، وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة.
ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر، وتغوير ما وراءها من القلب.
والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده- فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال: «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» فقال: يا رسول الله، ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لما ماء وليس لهم ماء. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك.
ففي هذه الليلة- وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر- كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً.. والمدد على هذا النحو مدد مزدوج: مادي وروحي. فالماء في الصحراء مادة الحياة، فضلاً على أن يكون أداة النصر. والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة. ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء (ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم، فقد جاء هذا متأخراً في غزوة بن المصطلق في السنة الخامسة).
وهنا تثور الهواجس والوساوس، ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها.. وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة..
{وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام}..
ويتم المدد الروحي بالمدد المادي؛ وتسكن القلوب بوجود الماء، وتطمئن الأرواح بالطهارة؛ وتثبت الأقدام بثبات الأَرض وتماسك الرمال.
ذلك إلى ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا؛ وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا؛ وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة:
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضروا منهم كل بنان}..
إنه الأمر الهائل.. إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة؛ واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة.. هذا هو الأمر الذي لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث: كيف اشتركت الملائكة؟ ولا كم قتيلاً قتلت؟ ولا كيف قتلت؟... إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة.. إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم.. أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة!
إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة؛ ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم. فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني.. وقد أوحي إليهم ربهم: أني معكم. وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا، ففعلوا- لأنهم يفعلون ما يؤمرون- ولكننا لا ندري كيف فعلوا. وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كل بنان. ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها، فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة، ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله.. ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا. فكان ذلك، ووعده الحق، ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان. فالله هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو يحول بين المرء وقلبه؛ وهو أقرب إليه من حبل الوريد..